فصل: ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير الملك مسعود وجيوش بك إلى العراق وما كان بينهما وبين البرسقي ودبيس:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، برز البرسقي، ونزل بأسفل الرقة، في عسكره ومن معه، وأظهر أنه على قصد الحلة وإجلاء دبيس بن صدقة عنها.
وجمع دبيس جموعاً كثيرة من العرب والأكراد، وفرق الأموال الكثيرة والسلاح.
وكان الملك مسعود ابن السلطان محمد بالموصل مع أتابكه أي أبه جيوش بك، فأشار عليهما جماعة ممن عندهما بقصد العراق فإنه لا مانع دونه، فسارا في جيوش كثيرة، ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر جد ملوكنا الآن بالموصل، وكان من الشجاعة في الغاية، ومعهم أيضاً صاحب سنجار، وأبو الهيجاء، صاحب إربل، وكرباوي بن خراسان التركماني، صاحب البوازيج. فلما علم البرسقي قربهم خافهم.
وكان البرسقي قديماً قد جعله السلطان محمد أتابك ولده مسعود، على ما ذكرناه، وإنما كان خوفه من جيوش بك، فلما قاربوا بغداد سار إليهم ليقاتلهم ويصدهم، فلما علم مسعود وجيوش بك ذلك أرسلا إليه الأمير كرباوي في الصلح، وأعلمه أنهم إنما جاءوا نجدة له على دبيس، واصطلحوا، وتعاهدوا، واجتمعوا.
ووصل مسعود إلى بغداد، ونزل بدار المملكة، ووصلهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس، المقدم ذكره، في جيش كثير، فسار البرسقي عن بغداد ليحاربه ويمنعه عنها، فلما علم به منكبرس قصد النعمانية، وعبر دجلة هناك، واجتمع هو ودبيس بن صدقة.
وكان دبيس قد خاف من الملوك مسعود والبرسقي، فبنى أمره على المحاجزة والملاطفة، فأهدى لمسعود هدية حسنة، وللبرسقي، وجيوش بك، فلما وصله خبر وصول منكبرس راسله، واستماله، واستحلفه، واتفقا على التعاضد والتناصر، واجتمعا، وكل واحد منهما قوي بصاحبه، فلما اجتمعا سار الملك مسعود، والبرسقي، وجيوش بك، ومن معهم، إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس، فلما وصلوا المدائن أتتهم الأخبار بكثرة الجمع معهما، فعاد البرسقي، والملك مسعود، وعبرا نهر صرصر، وحفظا المخاضات عليه، ونهبت الطائفتان السواد نهباً فاحشاً: نهر الملك، ونهر صرصر، ونهر عيسى، وبعض دجيل، واستباحوا النساء.
فأرسل المسترشد بالله إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال، ويأمرهما بحقن الدماء، وترك الفساد، ويأمر بالموادعة والمصالحة، وكان الرسل: سديد الدولة بن الأنباري، والإمام الأسعد الميهني، مدرس النظامية، فأنكر البرسقي أن يكون جرى منهما شيء من ذلك، وأجاب إلى العود إلى بغداد، فوصل من أخبره أن منكبرس ودبيساً قد جهزا ثلاثة آلاف فارس مع منصور أخي دبيس، والأمير حسين بن أزبك، ربيب منكبرس، وسيروهم، وعبروا عند درزيجان ليقطعوا مخاضة عند ديالى إلى بغداد، لخلوها من عسكر يحميها ويمنع عنها.
فعاد البرسقي إلى بغداد، وعبر الجسر لئلا يخاف الناس، ولم يعلموا الخبر، وخلف ابنه عز الدين مسعوداً على عسكره بصرصر، واستصحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر، فوصل إلى ديالى، ومنع عسكر منكبرس من العبور، فأقام يومين، فأتاه كتاب ابنه عز الدين مسعود يخبره أن الصلح قد استقر بين الفريقين، فانكسر نشاطه، حيث جرى هذا الأمر ولم يعلم به، وعاد نحو بغداد، وعبر إلى الجانب الغربي، وعبر منصور وحسين فسارا في عسكرهما خلفه، فوصلا بغداد عند نصف الليل، فنزلا عند جامع السلطان.
وسار البرسقي إلى الملك مسعود فأخذ بركه وماله وعاد إلى بغداد، فخيم عند القنطرة العتيقة، وأصعد الملك مسعود، وجيوش بك، فنزلا عند البيمارستان، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما تحت الرقة، وأقام عز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفرداً عن أبيه.
وكان سبب هذا الصلح أن جيوش بك كان قد أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود، فوصل كتاب الرسول من العسكر يذكر أنه لقي من السلطان إحساناً كثيراً، وأنه أقطعهما أذربيجان، فلما بلغه رحيلهما إلى بغداد اعتقد أنهما قد عصيا عليه، فعاد عما كان استقر، ويقول إن السلطان قد جهز عسكراً إلى الموصل. فوقع الكتاب بيد منكبرس، فأرسله إلى جيوش بك، وضمن له إصلاح السلطان له وللملك مسعود، وكان منكبرس متزوجاً بأم الملك مسعود، واسمها سرجهان، وكان يؤثر مصلحته لذلك، واستقر الصلح، وخافا من البرسقي أن يمنع منه، فاتفقا على إرسال العسكر إلى درزيجان لينفذ في مقابلته البرسقي ليخلو العسكر منه، ويقع الاتفاق، فكان الأمر في مسيره على ما تقدم.
وكان البرسقي محبوباً لدى أهل بغداد لحسن سيرته فيهم، فلما استقر الصلح، ووصلوا إلى بغداد تفرق عن البرسقي أصحابه وجموعه، وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان، وسار عن العراق إلى الملك مسعود، فأقام معه، واستقر منكبرس في شحنكية بغداد، وودعه دبيس بن صدقة، وعاد إلى الحلة، بعد أن طالب بدار أبيه بدرب فيروز، وكانت قد دخلت في جامع القصر ببغداد، فصولح عنها بمال.
وأقام منكبرس ببغداد يظلم ويعسف بالرعية، ويصادرهم، فاختفى أرباب الأموال، وانتقل جماعة إلى حريم دار الخلافة خوفاً منه، وبطلت معايش الناس، وأكثر أصحابه الفساد، حتى إن بعض أهل بغداد زفت إليه امرأة تزوجها، فعلم بعض أصحاب منكبرس، فأتاه وكسر الباب وجرح الزوج عدة جراحات، وابتنى بزوجته، فكثر الدعاء ليلاً ونهاراً، واستغاث الناس لهذه الحال، وأغلقوا الأسواق، فأخذ الجندي إلى دار الخلافة فاعتقل أياماً ثم أطلق.
وسمع السلطان بما يفعله منكبرس ببغداد، فأرسل إليه يستدعيه، ويحثه على اللحوق به، وهو يغالط ويدافع، وكلما طلبه السلطان لج في جمع الأموال والمصادرات. فلما علم أهل بغداد تغير السلطان عليه، واستدعاءه إياه، طمعوا فيه، فسار حينئذ منكبرس عنهم خوفاً أن يثوروا به، وكفى الناس شره، وظهر من كان مستتراً.

.ذكر وفاة ملك الفرنج وما كان بين الفرنج وبين المسلمين:

في ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمسمائة توفي بغدوين ملك القدس، وكان قد سار إلى ديار مصر في جمع الفرنج، قاصداً ملكها والتغلب عليها، وقوي طمعه في الديار المصرية، وبلغ مقابل تنيس، وسبح في النيل، فانتقض جرح كان به، فلما أحس بالموت عاد إلى القدس، فمات، ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها، وهو الذي كان أسره جكرمش، وأطلقه جاولي سقاوو، واتفق أن هذا القمص كان قد سار إلى القدس يزور بيعة قمامة، فلما وصى إليه بالملك قبله، واجتمع له القدس والرها.
وكان أتابك طغتكين قد سار عن دمشق لقتال الفرنج، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل باليرموك، فخفيت عنه وفاة بغدوين، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوماً، وبينهم نحو يومين، فأتته رسل ملك الفرنج يطلب المهادنة، فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف، والحنانة، والصلت، والغور، فلم يجب إلى ذلك، وأظهر القوة، فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها، وسار منها نحو عسقلان.
وكانت للمصريين وبها عساكرهم، كانوا قد سيروها لما عاد ملك القدس المتوفى عن مصر، وكانوا سبعة آلاف فارس، فاجتمع بهم طغتكين، وأعلمه المقدم عليهم أن صاحبهم تقدم إليه بالوقوف عند رأي طغتكين، والتصرف على ما يحكم به، فأقاموا بعسقلان نحو شهرين، ولم يؤثروا في الفرنج أثراً، فعاد طغتكين إلى دمشق، فأتاه الصريخ بأن مائة وثلاثين فارساً من الفرنج أخذوا حصناً من أعماله يعرف بالحبس، يعرف بحصن جلدك، سلمه إليهم المستحفظ به وقصدوا أذرعات فنهبوها، فأرسل إليهم تاج الملوك بوري بن طغتكين، فانحازوا عنه إلى جبل هناك، فنازلهم، فأتاه أبوه ونهاه عنهم، فلم يفعل، وطمع فيهم، فلما أيس الفرنج قاتلوا قتال مستقتل، فنزلوا من الجبل وحملوا على المسلمين حملة صادقة هزموهم بها، وأسروا وقتلوا خلقاً كثيراً، وعاد الفل إلى دمشق على أسوأ حال.
فسار طغتكين إلى حلب، وبها إيلغازي، فاستنجده، وطلب منه التعاضد على الفرنج، فوعده بالمسير معه، فبينما هو بحلب أتاه الخبر بأن الفرنج قصدوا حوران من أعمال دمشق، فنهبوا وقتلوا وسبوا وعادوا، فاتفق رأي طغتكين وإيلغازي على عود طغتكين إلى دمشق، وحماية بلاده، وعود إيلغازي إلى ماردين، وجمع العساكر، والاجتماع على حرب الفرنج، فصالح إيلغازي من يليه من الفرنج على ما تقدم ذكره، وعبر إلى ماردين لجمع العساكر، وكان ما نذكره سنة ثلاث عشرة، إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة انقطع الغيث، وعدمت الغلات في كثير من البلاد، وكان أشده بالعراق، فغلت الأسعار، وأجلى أهل السواد، وتقوت الناس بالنخالة، وعظم الأمر على أهل بغداد بما كان يفعله منكبرس بهم.
وفيها أسقط المسترشد بالله من الإقطاع المختص به كل جور، وأمر أن لا يؤخذ إلا ما جرت به العادة القديمة، وأطلق ضمان غزل الذهب، وكان صناع السقلاطون، والممزج، وغيرهم ممن يعمل منه، يلقون شدة من العمال عليها، وأذى عظيماً.
وفيها تأخر مسير الحجاج تأخراً أرجف بسببه بانقطاع الحج من العراق، فرتب الخليفة الأمير نظر، خادم أمير الجيوش يمن، وولاه من أمر الحج ما كان يتولاه أمير الجيوش، وأعطاه من المال ما يحتاج إليه في طريقه، وسيره، فأدركوا الحج وظهرت كفاية نظر.
وفيها وصل مركبان كبيران فيهما قوة ونجدة للفرنج بالشام، فغرقا، وكان الناس قد خافوا ممن فيهما.
وفيها وصل رسول إيلغازي، صاحب حلب وماردين، إلى بغداد يستنفر على الفرنج، ويذكر ما فعلوا بالمسلمين في الديار الجزرية، وأنهم ملكوا قلعة عند الرها، وقتلوا أميرها ابن عطير، فسيرت الكتب بذلك إلى السلطان محمود.
وفيها نقل المستظهر إلى الرصافة، وجميع من كان مدفوناً بدار الخلافة، وفيهم جدة المستظهر أم المقتدي، وكانت وفاتها بعد المستظهر، ورأت البطن الرابع من أولادها.
وفيها كثر أمر العيارين بالجانب الغربي من بغداد، فعبر إليهم نائب الشحنة في خمسين غلاماً أتراكاً، فقاتلهم، فانهزم منهم، ثم عبر إليهم من الغد في مائتي غلام، فلم يظفر بهم، ونهب العيارون يومئذ قطفتا.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الفضل بكر بن محمد بن علي بن الفضل الأنصاري من ولد جابر بن عبد الله، وهو من بلد بخارى، وكان من أعيان الفقهاء الحنفية، حافظاً للمذهب.
وتوفي أبو طالب الحسين بن محمد بن علي بن الحسن الزينبي، نقيب النقباء ببغداد، في صفر، واستقال من النقابة، فوليها أخوه طراد، وكان من أكابر الحنفية، وروى الحديث الكثير.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو زكرياء يحيى بن عبد الوهاب بن مندة الأصبهاني، المحدث المشهور من بيت الحديث، وله فيه تصانيف حسنة.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن الخازن، وكان أديباً، ظريفاً، له شعر حسن، فمنه قوله، وقد قصد زيارة صديق له، فلم يره، فأدخله غلمانه إلى بستان في الدار، وحمام، فقال في ذلك:
وافيت منزله، فلم أر صاحباً ** إلا تلقاني بوجه ضاحك

والبشر في وجه الغلام نتيجة ** لمقدمات ضياء وجه المالك

ودخلت جنته، وزرت جحيمه ** فشكرت رضواناً ورأفة مالك ثم دخلت:

.سنة ثلاث عشرة وخمسمائة:

.ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود:

كان الملك طغرل بن محمد لما توفي والده بقلعة سرجهان، وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم، وأقطعه والده، سنة أربع، ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شيركير الذي تقدم ذكره في حصار قلاع الإسماعيلية، فازداد ملك طغرل بما فتحه شيركير من قلاعهم، فأرسل إليه السلطان محمود الأمير كنتغدي ليكون أتابكاً له، ومدبراً لأمره، ويحمله إليه، فلما وصل إليه حسن له مخالفة أخيه، وترك المجيء إليه، واتفقا على ذلك.
وسمع السلطان محمود الخبر، فأرسل شرف الدين أنوشروان بن خالد، ومعه خلع وتحف وثلاثون ألف دينار، ووعد أخاه بإقطاع كثير، زيادة على ما له، إذا قصده، واجتمع به، فلم تقع الإجابة إلى الاجتماع، وأجاب كنتغدي بأننا في طاعة السلطان، وأي جهة أراد قصدناها، ومعنا من العساكر ما نقاوم بها من يرسم بقصده.
فبينما الخوض معهم في ذلك ركب السلطان محمود من باب همذان في عشرة آلاف فارس، جريدة، في جمادى الأولى، وكتم مقصده، وعزم على أن يكبس أخاه، والأمير كنتغدي، فرأى أحد خواصه تركياً من أصحاب الملك طغرل، فأعلم السلطان به، فقبض عليه، فعلم رفيق كان معه الحال، فسار عشرين فرسخاً في ليلة، ووصل إلى الأمير كنتغدي، وهو سكران، فأيقظه بعد جهد، وأعلمه الحال، فقصد الملك طغرل، فعرفه ذلك، وأخذ متخفياً، وقصد قلعة سميران، فضلاً عن الطريق إلى قلعة سرجهان، وكانا قد فارقاها، وجمع العساكر، وكان ضلالهما هداية لهما إلى السلامة، فإن السلطان محموداً جعل طريقه على سميران، وقال: إنها حصنهما الذي فيه الذخائر والأموال، وإذا علما بوصوله إليهما سارا إليها، فربما صادفهما في الطريق، فسلما منه بما ظناه عطباً لهما.
ووصل السلطان إلى العسكر، فكبسه، ونهبه، وأخذ من خزانة أخيه ثلاثمائة ألف دينار، وذلك المال الذي أنفذه له، وأقام السلطان محمود بزنجان، وتوجه منها إلى الري، ونزل طغرل من سرجهان، ولحق هو وكنتغدي بكنجة وقصده أصحابه، فقويت شوكته، وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه محمود.

.ذكر الحرب بين سنجر والسلطان محمود:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، كانت حرب شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود، ونحن نذكر سياقة ذلك: قد ذكرنا سنة ثمان وخمسمائة مسير السلطان سنجر إلى غزنة، وفتحها وما كان منه فيها، ثم عاد عنها إلى خراسان، فلما بلغه وفاة أخيه السلطان محمد، وجلوس ولده السلطان محمود في السلطنة، وهو زوج ابنة سنجر، لحقه حزن عظيم لموت أخيه، وأظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله، وجلس للعزاء على الرماد، وأغلق البلد سبعة أيام، وتقدم إلى الخطباء بذكر السلطان محمد بمحاسن أعماله من قتال الباطنية، وإطلاق المكوس، وغير ذلك.
وكان سنجر يلقب بناصر الدين، فلما توفي أخوه محمد تلقب بمعز الدين، وهو لقب أبيه ملكشاه، وعزم على قصد بلد الجبال والعراق وما بيد محمود ابن أخيه، فندم على قتل وزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر بن نظام الملك.
وكان سبب قتله أنه وحش الأمراء، واستخف بهم، فأبغضوه وكرهوه، وشكوا منه إلى السلطان، وهو بغزنة، فأعلمهم أنه يؤثر قتله، وليس يمكنه فعل ذلك بغزنة.
وكان سنجر قد تغير على وزيره لأسباب منها: أنه أشار عليه بقصد غزنة، فلما وصل إلى بست أرسل أرسلانشاه صاحبها إلى الوزير، وضمن له خمسمائة ألف دينار ليثني سنجر عن قصده، فأشار عليه بمصالحته والعود عنه، وفعل مثل ذلك بما وراء النهر، ومنها: أنه نقل عنه أنه أخذ من غزنة أموالاً جليلة عظيمة المقدار، ومنها: ما ذكر من إيحاشه الأمراء وغير هذه الأسباب.
فلما عاد إلى بلخ قبض عليه، وقتله وأخذ ماله، وكان له من الجواهر والأموال ما لا حد عليه، والذي وجد له من العين ألفا ألف دينار، فلما قتله استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك، ويعرف بابن الفقيه، إلا أنه لم تكن له منزلة ابن فخر الملك عند الناس في علو المنزلة. فلما اتصل به وفاة أخيه ندم على قتله لأنه كان يبلغ به من الأغراض والملك ما لا يبلغه بكثرة العساكر لميل الناس إليه، ومحله عندهم.
ثم إن السلطان محموداً أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فتجهز ليسير إلى الري، فأشار عليه شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب، فكان جوابه في ذلك: أن ولد أخي صبي، وقد تحكم عليه وزيره والحاجب علي.
فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحوه، ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان، تقدم إلى الأمير علي بن عمر، وهو أمير حاجب السلطان محمد، وبعده صار أمير حاجب السلطان محمود، بالمسير، وضم إليه جمعاً كثيراً من العساكر والأمراء، فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس، فساروا إلى أن قاربوا مقدمة سنجر التي عليها الأمير أنر، فراسله الأمير علي بن عمر يعرفه وصية السلطان محمد بتعظيم سنجر والرجوع إلى أمره ونهيه، والقبول منه، وأنه ظن أن سنجر يحفظ السلطنة على ولده السلطان محمود، وأخذ علينا بذلك العهود، فليس لنا أن نخالفه، وحيث جئتم إلى بلادنا لا نحتمل ذلك، ولا نغضي عليه، وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس، فأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا، ولا تقوون بنا.
فلما سمع الأمير أنر ذلك عاد عن جرجان ولحقه بعض عسكر السلطان محمود. فأخذوا قطعة من سواده، وأسروا عدة من أصحابه.
وكان السلطان محمود قد وصل إلى الري، وهو بها، وعاد الأمير علي بن عمر إليه، فشكره على فعله، وأثنى عليه وعلى عسكره الذين معه.
وأشير على السلطان محمود بملازمة الري، والمقام بها، وقيل: إن عساكر خراسان إذا علموا بمقامك فيها لا يفارقون حدودهم، ولا يتعدون ولايتهم. فلم يقبل ذلك وضجر المقام، وسار إلى جرجان.
ووصل السلطان محمود والأمير منكبرس من العراق في عشرة آلاف فارس، والأمير منصور بن صدقة أخو دبيس، والأمراء البكجية، وغيرهم، وسار محمود إلى همذان، وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر أبا طالب السميرمي، وبلغه وصول عمه سنجر إلى الري، فسار نحوه قاصداً قتاله، فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة، وكان عسكر السلطان محمود قد عرفوا المفازة التي بين يدي عسكر سنجر، وهي ثمانية أيام، فسبقوهم إلى الماء وملكوه عليهم.
وكان العسكر الخراساني في عشرين ألفاً، ومعهم ثمانية عشر فيلاً اسم كبيرها باذهو، ومن الأمراء الكبار: ولد الأمير أبي الفضل، صاحب سجستان. وخوارزمشاه محمد، والأمير أنر، والأمير قماج، واتصل به علاء الدولة كرشاسف بن فرامرز بن كاكويه، صاحب يزد، وهو صهر السلطان محمد وسنجر على أختهما، وكان أخص الناس بالسلطان محمد، فلما تولى السلطان محمود تأخر عنه، فأقطع بلده لقراجة الساقي الذي صار صاحب بلاد فارس، فسار حينئذ علاء الدولة إلى سنجر، وهو من ملوك الديلم، وعرف سنجر الأحوال، والطريق إلى قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد، وما فعله الأمراء من أخذ الأموال، وما هم عليه من اختلاف الأهواء، وحسن قصد البلاد.
وكان عسكر السلطان محمود ثلاثين ألفاً، ومن الأمراء الكبار: الأمير علي بن عمر، أمير حاجب، والأمير منكبرس، وأتابكه غزغلي، وبنو برسق، وسنقر البخاري، وقراجة الساقي، ومعه تسعمائة حمل من السلاح.
واستهان عسكر محمود بعسكر عمه بكثرتهم وشجاعتهم، وكثرة خيلهم، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة، فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته، واختلط أصحابه، واضطرب أمرهم، وساروا منهزمين لا يلوون على شيء، ونهب من أثقالهم شيء كثير، وقتل أهل السواد كثيراً منهم.
ووقف سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه، وبإزائه السلطان محمود، ومعه أتابكه غزغلي، فألجأت سنجر الضرورة، عند تعاظم الخطب عليه، أن يقدم الفيلة للحرب، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر أو القتل، وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفيلة، ورآها خيل محمود، تراجعت بأصحابها على أعقابها، فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال، وقال لأصحابه: لا تفزعوا الصبي بحملات الفيلة، فكفوها عنهم، وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب، وأسر أتابكه غزغلي، فكان يكاتب السلطان، ويعده أنه يحمل إليه ابن أخيه، فعاتبه على ذلك، فاعتذر بالعجز، فقتله، وكان ظالماً قد بالغ في ظلم أهل همذان، فعجل الله عقوبته.
ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، فأرسل الأمير دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر، فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى، وقطعت خطبة السلطان محمود.
وأما السلطان محمود فإنه سار من الكسرة إلى أصبهان، ومعه وزيره أبو طالب السميري، والأمير علي بن عمر وقراجة.
وأما سنجر فإنه سار إلى همذان، فرأى قلة عسكره، واجتماع العساكر على ابن أخيه، فراسله في الصلح، وكانت والدته تشير عليه بذلك، وتقول: قد استوليت على غزنة وأعمالها، وما وراء النهر، وملكت ما لا حد عليه، وقررت الجميع على أصحابه، فاجعل ولد أخيك كأحدهم.
وكانت والدة سنجر هي جدة السلطان محمود، فأجاب إلى قولها، ثم كثرت العساكر عند سنجر منهم البرسقي، وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من حين خروجه عن بغداد إلى هذه الغاية، فقوي بهم. فعاد الرسول وأبلغه عن الأمراء الذين مع السلطان محمود أنهم لا يصالحونه حتى يعود إلى خراسان، فلم يجب إلى ذلك، وسار من همذان إلى كرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح، ووعده أن يجعله ولي عهده، فأجاب إلى ذلك، واستقر الأمير بينهما، وتحالفا عليه.
وسار السلطان محمود إلى عمه سنجر في شعبان، فنزل على جدته والدة سنجر، وأكرمه عمه، وبالغ في ذلك، وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة، فقبلها ظاهراً، وردها باطناً، ولم تقبل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة، وما وراء النهر، وغيرها من الولايات، بأن يخطب للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد مثل ذلك، وأعاد عليه جميع ما أخذ من البلاد سوى الري، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحدث السلطان محمود نفسه بالخروج.